الجمعة 2 جمادى الآخرة 1442 هـ

الموافق 15 يناير 2021 م

 

الحمد لله الذي اصطفى لمحبته الأخيار، فصرف قلوبهم إلى طاعته ومرضاته، آناء الليل وأطراف النهار نحمده سبحانه ونشكره شكر الشاكرين الأبرار. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مقلب القلوب والأبصار، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المصطفى المختار، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الأطهار وعلى جميع أصحابه الأخيار، ومن سار على نهجهم، ما أظلم الليل وأضاء النهار واقتفى أثرهم إلى يوم القرار وسلم تسليما كثيراً.

أمّا بعد: فيا عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)

معاشر المسلمين: نفع الناس، والسعي في قضاء حوائجهم، وفعلِ الخير لهم، عبادة عظيمة، يتقرب بها العبد المؤمن إلى الله تعالى، ويحرص عليها من أراد الله والدار الآخرة، وقد قرنه سبحانه بأعظمِ عبادة فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ، وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)  وهي بلا شك، عبادة ذات ثمار يانعة، ونتائج نافعة، يكفي أن الله جل وعلا أمر بها عباده، وأن النبي صلى الله عليه وسلم حثهم عليها، وأنها عادة من عادات المتقين، وصفة من صفات الصادقين المخلصين .

بل يكفي عباد الله، أن الذي لا ينفع الناس، يعتبر من الخاسرين، الذين أقسم الله عز وجل  على خسارتهم وهلاكهم، كما قال تبارك وتعالى في سورة العصر: (وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)

ففي هذه السورة العظيمة، التي قال عنها الإمام الشافعي رحمه الله: لو ما أنزل الله حجّة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم ، يقسم تعالى على خسارة الإنسان إن لم يكن جمع بين أربع صفات: هي الإيمان، وعمل الصالحات، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، فبالأمرين الأوليين يكمل الإنسان نفسه، وبالأمرين الآخرين يكمل غيره،  وبتكميل هذه الأربعة الأمور، يكون الإنسان قد سلم من الخسارة، وفاز بالربح العظيم.. فنجاة الإنسان موقوفة على سعيه في نفع الآخرين، ونصحهم وتوصيتهم بالحق والصبر، وقد قال الله تعالى: ( وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)أي: أفعلوا الخيرات وادعوا الناس إليها، وهذا شامل لجميع الخيرات، من حقوق الله، وحقوق العباد.. وقال جل وعلا عن أصفيائه وأوليائه: (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ) وخص من ينفعُ عبادَ الله بدرجة عظيمة ومكانة عالية؛ حيث أخبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما سُئل: أي الناس أحب إلى الله؟ فقال: أحبّ النّاس إلى اللّه تعالى أنفعهم للنّاس) وجعل من يتصف بنفع الأمة بخير الناس وأحسنهم فقال: (المؤمن يأْلَف ويُؤْلَف، ولا خير فيمن لا يأْلَف ولا يُؤْلَف وخيرُ الناس أنفعهم للناس)..

فنفع الناس بما يحتاجون إليه سواء كان مالاً أو جاهاً أو علماً أو رأياً أو نصحاً، عبادة عظيمة، بل صدقة من الإنسان على نفسه..

أيها الإخوة والأخوات في الله: لقد جعل رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم تقديم الخير والنفع للمسلمين من الصدقات، وهذه الصدقات منها ما ظاهره السهولة واللطف؛ لكنَّ أثره يتغلغل في أعماق النفس وقرار الوجدان فيهزها هزاً، تأملوا قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ) وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تَحْقِرَنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْئاً، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ)أيها المسلم: إن تبسمك في وجه أخيك الذي يبدو لك هيناً، حتى إنك ربما ترى أنه ما يصح أن يوضع في الصدقات، لهو أشق شيء على النفس التي لم تتعود الخير ولم تتجه إليه، فهناك أناس لا يتبسمون أبداً، ولا تنفرج أساريرهم ولا ينطلق محياهم وهم يلقون غيرهم من الناس ووجوههم عابسة، ونفوسهم منقبضة، وينابيع الخير فيها مغلقة وعليها أقفالها، وإن هذه الابتسامة على الوجه الطلق لتعمل عمل السحر. جربها! نعم جربها يا عبد الله.. جرب أن تلقى الناس بوجه طلق وعلى فمك ابتسامةٍ مشرقة، ولن تندم على التجربة أبداً. إن الابتسامة لتستطيع وحدها، أن تفتح مغاليق النفوس، وتنفذ إلى الأعماق، لتنفذ إلى القلب! .

أيها المؤمنون: ومن الأمثلة على نفع الناس ما جاء في الحديث الصحيح: أنّ رجلاً جاء إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال: يا رسول اللّه: أيّ النّاس أحبّ إلى اللّه تعالى؟ وأيّ الأعمال أحبّ إلى اللّه؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعاً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْناً، وَلأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ لِي فِي حَاجَةٍ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ -يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ- شَهْراً)، والأجر في نفع المسلمين عظيم؛ فقد جاء في الصحيح أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (َمنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِماً سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). وفي رواية: (وَمَنْ مَشَى مَعَ مَظْلُومٍ حَتَّى يُثبِتَ لَهُ حَقَّهُ؛ ثَبَّتَ اللهُ قَدَمَيْهِ عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ تَزُولُ الْأَقْدَامُ). وفي حديث آخر: (وَمَنْ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ كَظمَ غَيْظَهُ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ، مَلأَ اللَّهُ قَلْبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رِضاً، وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى يُثْبِتَهَا، أَثْبَتَ اللَّهُ قَدَمَيْهِ يَوْمَ تَزُولُ الأَقْدَامُ).. وَنَحْنُ عباد الله قد تعجبون، يَجِبُ عَلَيْنَا في كُلِّ يَوْمٍ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ صَدَقَةٍ، مُقَابِلَ كُلِّ مِفْصَلٍ مِنْ مَفَاصِلِ أجسادنا، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كُلُّ سُلاَمَى (أَيْ: كُلُّ مِفْصَلٍ) مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ) وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (عَلَى كُلِّ نَفْسٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ صَدَقَةٌ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ). قَالَ أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مِنْ أَيْنَ نتَصَدَّقُ وَلَيْسَ لَنَا أَمْوَالٌ؟ فقَالَ صلى الله عليه وسلم: (لِأَنَّ مِنْ أَبْوَابِ الصَّدَقَةِ التَّكْبِيرَ، وَسُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ للهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ، وَتَأْمُرُ بِالْـمَعْرُوفِ، وَتَنْهَى عَنِ الْـمُنْكَرِ، وَتَعْزِلُ الشَّوْكَةَ وَالْعَظْمَ وَالْحَجَرَ عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ وَتَهْدِي الْأَعْمَى، وَتُسْمِعُ الْأَصَمَّ وَالْأَبْكَمَ حَتَّى يَفْقَهَ، وَتُدِلُّ الْـمُسْتَدِلَّ عَلَى حَاجَةٍ لَهُ قَدْ عَلِمْتَ مَكَانَهَا، وَتَسْعَى بِشِدَّةِ سَاقَيْكَ إِلَى اللهْفَانِ الْـمُسْتَغِيثِ، وَتَرْفَعُ بِشِدَّةِ ذِرَاعَيْكَ مَعَ الضَّعِيفِ، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَبْوَابِ الصَّدَقَةِ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ، وَلَكَ فِي جِمَاعِكَ زَوْجَتَكَ أَجْرٌ). قَالَ أَبُو ذَرٍّ: كَيْفَ يَكُونُ لِي أَجْرٌ فِي شَهْوَتِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ وَلَدٌ فَأَدْرَكَ وَرَجَوْتَ خَيْرَهُ فَمَاتَ، أَكُنْتَ تَحْتَسِبُ بِهِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَنْتَ خَلَقْتَهُ؟.قُلْتُ: بَلِ اللهُ خَلَقَهُ، قَالَ: فَأَنْتَ هَدَيْتَهُ؟. قُلْتُ: بَلِ اللهُ هَدَاهُ. قَالَ: فَأَنْتَ تَرْزُقُهُ؟ قُلْتُ: بَلِ اللهُ كَانَ يَرْزُقُهُ.قَالَ: (كَذَلِكَ فَضَعْهُ فِي حَلَالِهِ وَجَنِّبْهُ حَرَامَهُ، فَإِنْ شَاءَ اللهُ أَحْيَاهُ، وَإِنْ شَاءَ أَمَاتَهُ، وَلَكَ أَجْرٌ)

أيها المسلمون: وقد كان سلف هذه الأمة رضوان الله عليهم، يهتمون كثيراً بهذا الباب العظيم من أبواب الخير،(أعني نفع الناس) فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، أتاه المهاجرون، فقالوا: يا رسول الله، ما رأينا قوماً أبذل من كثير ولا أحسن مواساةً من قليل(أي من مال قليل) من قوم (أي الأنصار) -نزلنا بين أظهرهم- (أي عندهم) -لقد كفونا المؤنة، وأشركونا في المهنأ- (أي: أحسنوا إلينا؛ سواء كانوا كثيري المال، أو فقيري الحال) حتى لقد خفنا أن يذهبوا بالأجر كله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا، ما دعوتم الله لهم وأثنيتم عليهم) أي: ليس الأمر كما زعمتم؛ فإنكم إذا أثنيتم عليهم شكراً لصنيعهم ودُمتم عليه، فقد جازيتموهم… وبعث عبد الله بن الزبير رضي الله عنه إلى خالته عائشة رضي الله عنها بمال في كيس من القماش، فدعت بطبق وهي يومئذ صائمة، فجعلت تقسمه في الناس، فلما أمست قالت: يا جارية، هاتي فطوري، فقالت الجارية: يا أم المؤمنين، أما استطعت فيما أنفقت أن تشتري بدرهم لحماً تفطرين عليه؟ فقالت: لا تعنفيني، لو كنت أذكرتني لفعلتُ) الله أكبر نسيت نفسها وقدمت حاجة الناس عليها، وكان يقال لزينب بنت خزيمة رضي الله عنها زوج نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: أم المساكين لكثرة إطعامها المساكين وصدقتها عليهم وقضاء حوائجهم… وكان الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتعهد عجوزاً كبيرةً عمياءَ في بعض نواحي المدينة بالليل، فيسقي لها ويقوم بأمرها، فكان إذا جاءها وجد غيره قد سبقه إليها، فأصلح ما أرادت، فجاءها غير مرة؛ كيلا يُسبق إليها، فرصده عمر، فإذا هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه الذي يأتيها وهو يومئذ خليفة. فانظروا كيف كان هؤلاء يتسابقون لفعل الخير.

وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: (إنه لم يزل للناس وجوه يرفعون حوائج الناس، فأكرم وجوه الناس، فحسب المسلم الضعيف مِن العدل أن ينصف في الحكم والقسمة) وعن النَّزَّال بن سَبْرة رضي الله عنه يُحدث عن علي رضي الله عنه: (أنه صلى الظهر، ثم قعد في حوائج الناس في رحبة الكوفة، حتى حضرت صلاة العصر) وروي أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أوصى بحديقة لأمهات المؤمنين بيعت بأربعمائة ألف درهم… وقال أبو جعفر الباقر رحمه الله: جاء رجل إلى الحسين بن علي رضي الله عنهما، فاستعان به في حاجة، فوجده معتكفًاً، فاعتذر إليه، فذهب إلى الحسن رضي الله عنه، فاستعان به فقضى حاجته، وقال الحسن: لقضاء حاجة أخ لي في الله أحب إليَّ مِن اعتكاف شهراً).. وكان زين العابدين علي بن الحسين رحمه الله يحمل الخبز إلى بيوت المساكين في الظلام، فلما مات فقدوا ذلك، فعلم هؤلاء الفقراء أنه هو الذي كان يتصدق عليهم.

ويكفينا عباد الله أن السعي في نفع الخلق كان من صفات وأخلاق نبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم قبل بعثته وبعدها،  فقد استدلت خديجة رضي الله عنها على أن ما حصل في غار حراء لا يمكن أن يكون شراً لخُلُقْ النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: كَلَّا، فَو اللَّهِ لا يُخْزِيكَ اللَّهُ أبَداً، إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ علَى نَوَائِبِ الحَقِّ)

فلنتق الله عباد الله ولنحرص على نفع إخواننا بما نستطيع ، وبما وهبنا الله تعالى ، ننفعهم بعلمنا أو  بمالنا أو بجاهنا  أو برأينا  أو بنصحنا أو بمشورتنا ، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (خَيرُ النَّاس أنفعهم للنَّاس) وقال (من استطاع أن ينفع أخاه فلينفعه)

نسأل الله أن يوفقنا للقيام بخير الأعمال والقربات، وأن ينفع بنا دائماً، وأن يستعملنا ولا يستبدلنا إنه على كل شيء قدير.

نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم، وبهديِ سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد فيا أيها المسلمون: إن نفع الناس جَنَّةٌ معجلة من سرور وفرح وابتهاج يغشى الروح والنفس فتسعد، فقد عدّها العلامة ابن القيم رحمه الله من أسباب السعادة، وانشراح الصدر، إذ يقول: ومنها: الإحسان إلى الخلق ونفعهم بما يمكنه من المال والجاه والنفع بالبدن وأنواع الإحسان. فإن الكريم المحسن أشرح الناس صدراً، وأطيبهم نفساً، وأنعمهم قلباً، والبخيل الذي ليس فيه إحسان أضيق الناس صدراً، وأنكدهم عيشاً، وأعظمهم هماً وغماً) وفي نفع الناس عباد الله تخليد الأجور مع طيب الذكر والمآثر يقول تعالى: (وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ)

وَمَنْ عَاشَ حَتَّى يَنفَعَ النَّاسَ عِلْمُهُ

فَلَا زَالَ مُمْتَدّاً بِهِ الْعَيْشُ وَالْعُمْرُ

وَمَا الْخُلْدُ إِلَّا لِلَّذِينَ إِذَا انتَهَتْ

حَيَاتُهُمْ بِالْخَيْرِ دَامَ بِهَا الذِّكْرُ

وحبل عون الله تعالى للعبد ممدود بالرزق والنصر وتيسير قضاء الحاجة ما دام حبل نفعه للناس باقياً، يقول صلى الله عليه وسلم: (واللَّه فِي عَوْنِ العبْدِ مَا كانَ العبْدُ في عَوْن أَخيهِ). أوصى الإمام علي بن أبي طالب  رضي الله عنه كميل بن زياد رحمه الله قائلاً: يَا كُمَيْلُ مُرْ أَهْلَكَ أَنْ يَرُوحُوا فِي كَسْبِ اَلْمَكَارِمِ، وَيُدْلِجُوا فِي حَاجَةِ مَنْ هُوَ نَائِمٌ، فَوَ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ اَلْأَصْوَاتَ، مَا مِنْ أَحَدٍ أَوْدَعَ قَلْباً سُرُوراً إِلاَّ وَ خَلَقَ اَللَّهُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ اَلسُّرُورِ لُطْفاً، فَإِذَا نَزَلَتْ بِهِ نَائِبَةٌ، جَرَى إِلَيْهَا كَالْمَاءِ فِي اِنْحِدَارِهِ حَتَّى يَطْرُدَهَا عَنْهُ كَمَا تُطْرَدُ غَرِيبَةُ اَلْإِبِلِ) ونفع الناس عباد الله من أسباب الوقاية من المخازي والمهالك وسبيل للظفر بحسن الخاتمة، يقول صلى الله عليه وسلم:صنائع الْمَعْرُوف تَقِي مصَارِع السوء)

أيها المسلمون: لقد أدرك العقلاء أهمية نفع الناس، وقضاء حوائجهم، وبذل الخير لهم، فبذلوا من أجل ذلك وقتهم وجهدهم، بل اعتبروا الفضل، لمن يترك المجال لهم للقيام بنفعه،  ليسوا كحال بعض الناس اليوم هداهم الله الذين يتبعون ما يقومون به بالمن والأذى، لو ينفعك أحدهم بشفاعة، أو بمبلغ زهيد من المال أو يوصلك مشواراً بسيارته، جعل ذلك حديث مجالسه يتشدق به، إلى درجة أنك تخشى عليه من الذنب،  نسأل الله السلامة والعافية .. المخلصون عباد الله ليسوا كذلك، إذا عملوا معروفاً، أو قدموا نفعاً لغيرهم، يعتبرون الفضل له ليس لهم، ولذلك يقول عبد الله ابن عباس رضي اللّه عنهما: ثَلَاثَةٌ لَا أُكَافِئُهُمْ: رَجُلٌ بَدَأَنِي بِالسَّلَامِ، وَرَجُلٌ أَوْسَعَ لِي فِي الْمَجْلِسِ، وَرَجُلٌ اغبرت قدماه في المشي إِلَيَّ إِرَادَةَ التَّسْلِيمِ عَلِيَّ، فَأَمَّا الرَّابِعُ: فَلَا يُكَافِئُهُ عَنِّي إِلَّا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ. قِيلَ: وَمَنْ هُوَ؟ قَالَ: رَجُلٌ  نَزَلَ بِهِ أَمْرٌ فَبَاتَ لَيْلَتَهُ يُفَكِّرُ بِمَنْ يُنْزِلُهُ، ثُمَّ رَآنِي أَهْلًاً لِحَاجَتِهِ؛ لَمْ يَجِدْ لَهَا مَوْضِعاً غَيْرِي، فَأَنْزَلَهَا بِي)

والكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب عليهما السلام مع ما فعله إخوته به جهزهم بجهازهم، ولم يبخسهم شيئاً منه… وموسى عليه السلام لما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون، ووجد من دونهم امرأتين مستضعفتين، رفع الحجر عن البئر وسقى لهما حتى رويت أغنامهما.. وخديجة رضي الله عنها تقول في وصف نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما سمعنا (إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ علَى نَوَائِبِ الحَقِّ) ويقول جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ما سئل رسول الله شيئاً قط فقال : لا)

فالله الله عباد الله لنحرص على إيجاد هذه العبادة العظيمة بيننا، وليوصي بعضنا بعضاً، بها لأنها عمل الصالحين الأتقياء ومنهج الكرماء والنبلاء بل والرسل والأنبياء.

اللهم حببنا إليك، وحبب خلقك فينا، وحسن أخلاقنا، وقوي إيماننا، وأعنا على العمل الصالح ونفع الناس وقضاء حوائجهم وما يقربنا إلى حبك يارب العالمين.

اللَّهُمَّ إنِّا نسْأَلُكَ الجَنَّةَ ومَا قَرَّبَ إلَيْهَا مِنْ قَولٍ أَوْ عَمَلٍ، وَنعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إلَيْهَا مِنْ قَولٍ أَوْ عَمَلٍ. اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين.

اللهم أحفظ بلادنا البحرين وبلاد الحرمين الشريفين، وخليجنا، واجعله آمناً مطمئناً سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين. اللهم وفق ولاة أمورنا لما تحب وترضى، وفق ملكنا حمد بن عيسى وولي عهده رئيس وزرائه سلمان بن حمد، اللهم أعنهم على أمور دينهم ودنياهم.  وهيئ لهم من أمرهم رشداً، وأصلح بطانتهم. ووفقهم للعمل الرشيد، والقول السديد، ولما فيه خير البلاد والعباد إنك على كل شيء قدير.

اللهم ارفعْ وأدفع عنَّا البَلاءَ والوَباءَ والغلا والرِّبا والزِّنا والفواحشَ والزَّلازلَ والمِحَنَ والفتنَ وسَيءَ الأسقَامِ والأمراضِ عن بلدِنا البَحرينِ خاصةً، وعن سَائرِ بلادِ المسلمينَ والعالم عامةً يا ربَّ العالمينَ.

اللهم اسقنا الغيث، ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا وأغث قلوبنا بالإيمان والتقوى، وبلادنا بالأمطار والخيرات يارب العالمين.

اللهم كن لإخواننا المستضعفين في كل مكان ناصراً ومؤيداً،اللهم أحفظ بيت المقدس والمسجد الأقصى وأهله واجعله شامخاً عزيزاً عامراً بالطاعة والعبادة إلى يوم الدين

اللهم اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا، ونفس كروبنا، وعاف مبتلانا، واشف مرضانا، واشف مرضانا، برحمتك يا أرحم الراحمين.

الْلَّهُمَّ نَوِّرْ عَلَىَ أَهْلِ الْقُبُوْرِ مَنْ الْمُسْلِمِيْنَ قُبُوْرِهِمْ، وَاغْفِرْ لِلأحْيَاءِ وَيَسِّرْ لَهُمْ أُمُوْرَهُمْ، الْلَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ وَزِدْ وَبَارِكَ عَلَىَ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ.

(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ  وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)

        خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين